كود التفعيل
U3F1ZWV6ZTExOTY3MDAxOTMxMjMxX0ZyZWU3NTQ5ODE5NjE1MDAw
الصفحات
مربع البحث

الطرف الثالث

سياسية -اجتماعية - معلومات عامة - تحليلية

إعلان

نظرة على المستقبل والتحديات المنتظرة

موقف الرأي موقف الرأي العام الإسرائيلي بشأن إطلاق سراح الجاسوس «ترابين »


بعد سنوات من المفاوضات بين الجانبين المصري والإسرائيلي، جاء الإفراج المصري عن الجاسوس الإسرائيلي “عودة سليمان ترابين” في10 ديسمبر 2015، بعد أن قضى فترة العقوبة التي حددها له القضاء المصري عام 2000 بالسجن 15 عامًا بتهمة “التجسس” لإسرائيل، مقابل 2 من المصريين المحتجزين في السجون الإسرائيلية(1)؛ ليعيد التذكير بالتاريخ الطويل لتبادل الجواسيس والصفقات الاستخباراتية بين الجانبين المصري والإسرائيلي منذ تأسيس دولة إسرائيل منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، حيث أثارت تلك الصفقة حالة من الجدل في الداخل المصري والعربي، مفادها الغموض والشك في حدود ومآلات التغير في طبيعة العلاقة العدائية بين تل أبيب والقاهرة، فقد استند إليها الكثير في توجيه الانتقاد للقيادة المصرية، مؤكدين أن تلك الخطوة ما هي إلا حلقة من حلقات التقارب السريع بين العدوين في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ المنطقة العربية.
ولذا، سيتناول هذا التقرير في سياقه إجمالاً، استقراء تاريخ ومستجدات التغير في العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية في سياقها المرحلي، تمهيدًا لفهم ما وراء ذلك التغير والوقوف على خلفياته وانعكاساته على توجهات الحكومة الإسرائيلية تجاه الدولة المصرية، وكذلك للوقوف على حدود تأثير القرار المصري في تشكيل الرأي العام الإسرائيلي؛ كونه يعد أحد مداخيل التأثير على قرارات وتحركات الحكومة الإسرائيلية، كما سيستعرض بعضًا من تفاصيل صفقات تبادل الجواسيس التاريخية بين تل أبيب والقاهرة منذ تأسيس الدولة وحتى “ترابين”، والتي لم تكن كالعادة في جولتها الأخيرة (إطلاق ترابين”) لصالح إسرائيل مميزة.
وكتمهيد أيضًا لاستقراء انعكاسات القرار المصري بالإفراج عن “ترابين” على حالة الرضا الشعبي داخل إسرائيل على سياسات حكومته من عدمه، كخطوة لفهم وتوقع حجم التأثير المستقبلي لعدد من القرارات المتوقعة في ذلك السياق مستقبلاً.

 (1)

تاريخ العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية

بدأت العلاقات المصرية مع إسرائيل بحالة من العدائية المطلقة نظرًا لاحتلالها الأراضي الفلسطينية وسيطرتها على أجزاء من “سيناء” منذ حرب 1948، ثم مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ثم دخول الجانبين حرب يونيو 1967، ثم الانتقال إلى حرب الاستنزاف حتى هزيمة القوات المسلحة المصرية لإسرائيل في حرب 1973، لتنتهي حالة العداء والمواجهة المسلحة بتوقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في عام 1979، أقيمت بعدها علاقات دبلوماسية وأصبح لمصر سفارة في تل أبيب وقنصلية في إيلات، ولإسرائيل سفارة في القاهرة وقنصلية في الإسكندرية، ولتبدأ حقبة جديدة في الشرق الأوسط تغير عندها الواقع (الجيو ـ سياسي) في المنطقة بأسرها، لكن لم تنه هذه الاتفاقية حالة الصراع بين الطرفين، بل منحته شكلاً جديدًا، فبعد توقيع المعاهدة استمر الصراع على عدة ملفات، منها: المكانة والدور والنفوذ والقدرة على التأثير في قضايا، وتطور الأحداث في المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية.
ومع أن العلاقات السياسية بين الجانبين تميزت خلال حكم الرئيس الأسبق “محمد حسني مبارك”، بالاستقرار النسبي بعض الشيء والتجاوز عن بعض الوقائع كمقتل الجنود المصريين على الحدود برصاص القوات الإسرائيلية أو التحرك الإيجابي في ملف التطبيع، يمكن القول إجمالاً إن تطور العلاقات المصرية مع الجانب الإسرائيلي تمحور في ربطها بموقف الأخير من القضية الفلسطينية والسلام مع الدول العربية، واحترام السلام التعاقدي طبقًا للاتفاقية الموقعة، ومراعاة الخطوط الحمراء للجانبين والمتمثلة في عدم الوصول إلى المنطقة الأمنية والعسكرية والتي ترتبط باتجاهات التسلح واحتمالات وقوع الحرب بصورة فجائية، وعملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، ومراعاة العلاقات مع الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الراعية للسلام والتي تقدم المساعدات العسكرية والاقتصادية للطرفين، ومراعاة حساسية الرأي العام، في ظل قناعة الشعب المصري بأن العلاقات مع إسرائيل مجرد علاقات على المستوى الرسمي خاصة بالمعاهدات والبروتوكولات دون التدخل في التطبيع الشعبي بين كل منهما.
 وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن مصر التزمت مع باقي الدول العربية بما عرف بالمبادرة العربية للسلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت يوم 27/3/2002، وجعلت السلام خيارًا استراتيجيًا، بينما تهربت إسرائيل من كل المبادرات الخاصة بالتسوية الدولية والعربية(2).
وفي عام 2004، وقعت الحكومة المصرية تجاريًا مع إسرائيل والولايات المتحدةاتفاقية “الكويز“، والتي بموجبها سمحت واشنطن بدخول المنتجات المصرية لأسواقها دون تعرفة جمركية أو حصص كمية بشرط استخدام نسبة 11.7% مكونات إسرائيلية. وفي عام 2005، وقعت الحكومة المصرية اتفاقية تصدير الغاز المصري لإسرائيل تقضي بتصدير مصر لـ 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي لمدة 12عامًا إلى تل أبيب، وقد أثارت هاتان الاتفاقيتان مزيدًا من الانتقادات والشكوك المصرية والعربية حول مدى التغير الإيجابي في طبيعة العلاقات العدائية(3).
لكن عندما اندلعت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011، سادت حالة من الاضطراب أوساط الحكومة الإسرائيلية وصدرت تحذيرات شديدة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو”، مؤداها أن الثورة المصرية ستقود إلى ظهور نظام أصولي على غرار النظام الإيراني، وأن النظام الجديد سوف يبادر إلى إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل ويعيد أجواء المواجهة مجددًا.
 وفي الوقت نفسه، بذلت الحكومة الإسرائيلية جهودًا كبيرة لإقناع الإدارة الأمريكية بعدم التخلي عن نظام “مبارك”، وبعد تقدم الثورة المصرية وتراجع النظام أمام الثوار، توقف رئيس الوزراء الإسرائيلي عن التعليق على ما يجري في مصر، وطلب من أعضاء حكومته التزام الصمت وعدم الحديث إلى وسائل الإعلام عن الشأن المصري، وجرى التركيز على مآل معاهدة السلام فقط، وهو الأمر الذي انتهى عمليًا مع صدور البيان الرابع للمجلس العسكري في الثاني عشر من فبراير 2011، والذي تضمن في البند الخامس منه “التزام جمهورية مصر العربية بكافة الالتزامات والمعاهدات الإقليمية والدولية”.
ليعلن “نتانياهو” يوم 28/12/2011، أن التبدلات الاستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وخاصة التغيرات السياسية في مصر والعراق، ستهدد إسرائيل، وأن حكومته ستتخذ قرارات تقضي بتخصيص ميزانيات أكبر للأمن والجيش والاستخبارات من أجل مواجهة التحديات الاستراتيجية الجديدة، ولعل ذلك ما يفسر ضبابية واضطراب المشهد المصري والعربي بعد ذلك، والذي بات من المؤكد ما لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وغيرها من دور بارز فيها، في سبيل سعيها للسيطرة على الأوضاع وتوجيه دفتها لخدمة مصالح إسرئيل مستقبلاً.
ومع تولي الرئيس الأسبق “محمد مرسي” للرئاسة شهدت منظومة السياسة الخارجية تحولات عدة، لاسيما بشأن العلاقات مع إسرائيل، وحركة “حماس”، والوساطة المصرية في ملف المصالحة الفلسطينية، فضلاً عن مراجعة ثوابت الدائرة الشرق أوسطية في السياسة الخارجية المصرية، كتمهيد لاحتمالات تقارب ماثلة مع أطراف إقليمية متعددة، لاسيما إيران وتركيا، في ظل ما بين أنقرة وإسرائيل من تحالف استراتيجي، وما بين حركة “حماس” وتركيا “أردوغان” ومصر بقيادة “الإخوان” من تطابق فكري ووحدة مصير ومصلحة، وفي ظل وقوع الجميع تحت مظلة الرعاية الأمريكية، حيث تسعى من خلالهم واشنطن لتأمين مصالحها التاريخية وتحقيق طموحاتها وأهدافها الجيو ـ استراتيجية فى المنطقة مستقبلاً بمنتهى الأريحية(4).
وبناء على الاعتبارات السابقة اتبعت إسرائيل سياسة التمهل والتقارب الحذر تجاه مصر (ربما كان تخوفها نابعًا من دور “الإخوان المسلمين” كتيار إسلامي داعم للمقاومة وداعم لحقوق الشعب الفلسطيني ولا يقبل بالاحتلال الإسرائيلي ولا يعترف بشرعيته، بالإضافة إلى أنها لم ترغب في استثارة القيادة العسكرية المصرية في ظل ما بين الجانبين من تكتيكات وتحركات بشأن اضطرابات المنطقة الحدودية).
وحاليًا ما بعد الثلاثين من يونيو 2013، واضطراب وفشل الاستراتيجية الأمريكية في السيطرة على المنطقة والتى كانت ستضمن في الأساس المصلحة العليا لدولة الاحتلال؛ يمكن القول إن العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية تحكمها ردود الأفعال والمتغيرات على الساحة المصرية، وما تعتمد عليه إسرائيل في طبيعة علاقتها مع الجيش المصري، في ظل ما طرأ على اتفاقية السلام من تغيرات جيو ـ عسكرية في سيناء، تحت ضغط القبول الاضطراري لمواجهة التمدد الجهادي والإرهابي في سيناء، وأن العلاقة ليست علاقة تابع بمتبوع كما يروج البعض ويدعي.

 (2)

بعض من تاريخ تبادل الجواسيس بين الجانبين

 لم يكن الإفراج المصري عن الجاسوس “ترابين” السابقة الأولى فى تاريخ الصراع الاستخباراتي بين تل أبيب والقاهرة، بل جاء ليعيد التأكيد على الحقيقة التاريخية المتمثلة في تأصل العداوة والاستهداف المتواصل في مختلف مجالات العلاقات بين تل أبيب والقاهرة، حتى وإن بدا على غير ذلك في لحظة معينة.
فملف تبادل جواسيس “الموساد” مع مصر مليء بالإغراءات والمغامرات والمساومات والتنازلات، كما تعددت جولات المفاوضات وتباينت أوراق الضغط لعمليات استرداد جواسيس “الموساد” بمصر عبر أكثر من نصف قرن، واشتهر محترفو بعض عمليات التجسس بأسماء مميزة، ومن أشهرهم:
ـ “جون دار لنج”: الاسم المستعار لأحد أبرز عملاء “الموساد” الذين وصلوا مصر عام 1951، وهو يهودي بريطاني يدعى “إبراهام دار” عمل مع “الموساد” عقب تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، ونجح في تجنيد مصريين، من أشهرهم شابة يهودية تسمى “مارسيل نينو”، كانت بطلة أوليمبية مصرية معروفة باتصالاتها الواسعة في أواخر حكم الملك “فاروق”.
وعند اكتشاف شبكة التجسس التي نفذت عمليات تفجير دور السينما في القاهرة والإسكندرية والشهيرة بفضيحة “لافون” عام 1954، تم القبض على“مارسيل نينو” التي حاولت الانتحار مرتين في السجن، وتم إنقاذها وتقديمها إلى المحاكمة مع 11 جاسوسًا إسرائيليًا ضمن الشبكة نفسها، وحكم عليها بالسجن 15 عامًا، وكان من المقرر أن تنتهي فترة سجنها عام 1970، إلا أن عملية التبادل التي جرت بين القاهرة وتل أبيب بشكل سري عام 1968 أطلقت سراح “مارسيل” وعدد آخر من الجواسيس ضمن صفقة كبيرة لتحرير مئات الأسرى المصريين.
وقد التزمت إسرائيل بشرط عدم الإعلان عن تفاصيل الصفقة حتى عام 1975 حين سربها أحد الصحفيين الإسرائيليين عندما تتبع خيوط خبر غريب عن حضور “جولدا مائير” رئيسة الوزراء وقتها حفل زواج فتاة في الخامسة والأربعين من عمرها، وتوصل الصحفي إلى سر اهتمام “مائير” بـ”مارسيل” ونشر حكاياتها المثيرة.
ـ في عام 1960، اكتشفت أجهزة الأمن المصرية 5 شبكات تجسس بعد مجهودات متشعبة وخطيرة استمرت عامين فيما عرف إعلاميًا بعملية الفنان“سمير الإسكندراني” الذي تمكن بالتعاون مع جهاز المخابرات المصرية من إسقاط 10 جواسيس من الوزن الثقيل، وكان يدير هذه الخلايا التي تعمل داخل مصر عدد كبير من ضباط الموساد المحترفين من تل أبيب وروما وباريس وسويسرا وأمستردام وأثينا من خلال تبادل الخطابات السرية، والمعلومات عبر شبكة اتصالات كبيرة ومعقدة، وترتب على سقوطهم الإطاحة برئيس جهاز الموساد من منصبه.
ـ في عام 1962، تمكنت أجهزة الأمن المصرية من القبض على الجاسوس الإسرائيلي “ليفجانج لوتز” وزوجته بتهمة إرسال “طرود ملغمة” لقتل خبراء الصواريخ الألمان العاملين في القاهرة، وهو إسرائيلي من أصل ألماني، قدم معلومات دقيقة إلى تل أبيب عن الصواريخ الروسية “سام”، واكتشفت الحكومة المصرية عمالته لصالح إسرائيل بالصدفة عندما أمر الرئيس الراحل “جمال عبدالناصر” باعتقال 30 عالمًا من ألمانيا الغربية في مصر، وكان “لوتز” يقيم في القاهرة بصحبة زوجته وولديها، وخلال استجوابه اعترف بتجسسه وأطلق سراحه بعد قضائه ثلاث سنوات في السجن من خلال استبداله بأكثر من 500 ضابط مصري ممن أسروا في حرب 1967.
 ـ صفقة أخرى لتبادل الجواسيس بين القاهرة وتل أبيب تمت في سرية، ولم تعلن تفاصيلها إلا بعد سنوات من حدوثها.. وقعت أحداثها عام 1974 عندما ألقت المخابرات المصرية القبض على شبكة جواسيس أفرادها من أسرة الجاسوس“إبراهيم شاهين” وزوجته “انشراح” وأولادهما “نبيل” و”محمد” و”عادل”، وقام التليفزيون المصري بإنتاج قصتهم في مسلسل بعنوان “السقوط في بئر سبع”، وقد بدأت الشبكة عملها في مصر لحساب الموساد منذ عام 1968، وظلت طوال 7 سنوات كاملة تبث إلى تل أبيب المعلومات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد سقوط الشبكة في قبضة المخابرات المصرية، عقدت المحاكمة السرية في القاهرة، وصدر الحكم في 25 نوفمبر 1974 بالإعدام شنقًا لكل من “إبراهيم شاهين”، وزوجته والسجن لأولادهما الثلاثة.
وفي ديسمبر 1977، تم تنفيذ الحكم في “شاهين”، بينما أوقف “السادات” تنفيذه في زوجته، ووافق على الإفراج عنها وأولادها وتسليمهم جميعًا إلى تل أبيب في صفقة لتبادل الجواسيس بين القاهرة وتل أبيب بطلب من وزير الخارجية الأمريكي وقتها “هنري كيسنجر”، وذلك قبل زيارة “السادات” لتل أبيب وتوقيع اتفاقية “كامب ديفيد” للسلام.
ـ شهدت الفترة 1970 ـ 1981، مفاوضات سرية عديدة بين القاهرة وتل أبيب، أسفر بعضها عن إطلاق سراح جواسيس، في حين فشل البعض الآخر.. منها حالة الجاسوسة “هبة عبدالرحمن سليم عامر” الشهيرة بـ”عبلة كامل” التي تم إعدامها لخيانتها العظمى، وقامت السينما المصرية بإنتاج فيلم عن قصتها بعنوان “الصعود إلى الهاوية”، وقد رفضت مصر العديد من العروض الإسرائيلية لمبادلتها بجواسيس أو أسرى مصريين في إسرائيل، وأطلق عليها لقب “ملكة الجاسوسية”، لأنها استغلت جمالها في تنفيذ مهامها، ونجحت المخابرات المصرية في القبض عليها بعد التنسيق مع أبيها الذي كان يعمل مدرسًا في ليبيا وحكم عليها بالإعدام، وقالت “جولدا مائير” عنها :”إنها قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم لها زعماؤها”، فهي لم تتخابر بسبب المال أو الظروف الاقتصادية، بل تخابرت لأنها على قناعة بأن إسرائيل دولة قوية.
ومن الأمور التي تدل على حسم المخابرات المصرية عدم الإفراج عن بعض الجواسيس مهما كانت الإغراءات والإصرار على عقابهم، كنوع من توجيه الرسائل لتحقيق أهداف سياسية، فقد رفضت مصر عرضًا للإفراج عن الجاسوس “علي العطفي” الذي أدين في القضية رقم (4) لسنة 1979 محكمة أمن الدولة العليا، لارتكابه جريمة التخابر مع إسرائيل، ورغم أن “السادات” خفف الحكم عليه من الأشغال الشاقة المؤبدة إلى 15 سنة فقط.. فإنه رفض الإفراج عنه أو مبادلته، وكان “العطفي” المسئول عن العلاج الطبيعي في مؤسسة الرئاسة.
ـ شهدت الفترة من 1981 حتى الآن عدة عمليات لتبادل الجواسيس بين القاهرة وتل أبيب، وشملت متهمين في قضايا أخرى، ومن أبرزها: سقوط أكبر شبكة للجاسوسية معروفة بـ”شبكة آل مصراتي” عام 1992 في قبضة الأمن المصري، وضمت الشبكة أربعة جواسيس هم: “صبحي مصراتي” وأولاده “ماجد” و”فائقة” وآخراسمه “ديفيد أوفيتس”، ثم تمت مبادلة شبكة “آل مصراتي” وقتها بـ 18 مصريًا كانوا في سجون إسرائيل.
ويعتبر البعض قضية الجاسوس “عزام عزام” من أكثر القضايا إثارة للجدل، فقد اعتقلته السلطات المصرية عام 1996، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكان من المفترض انتهاء العقوبة عام 2012.
وتمثلت مهمة “عزام” وشبكته في جمع معلومات عن المصانع الموجودة في المدن الجديدة من حيث النشاط والحركة الاقتصادية، وتردد أنه استخدم طريقة جديدة للغاية وهي إدخال ملابس داخلية مشبعة بالحبر السري قادمة من إسرائيل، وقد رفض الرئيس السابق “مبارك” عروضًا إسرائيلية متعددة للإفراج عنه، مشيرًا إلى أن القرار بشأنه ليس رئاسيًا وإنما قضائي .
وكانت المفاجأة التي أثارت جدلاً كبيرًا صدور القرار المصري يوم 12 يونيه 2004 بالإفراج عن “عزام”، وتردد وقتها أن هذه الخطوة جاءت مقابل الإفراج عن ستة طلاب مصريين، اعتقلتهم إسرائيل أثناء عبورهم الحدود المصرية ـ الإسرائيلية واتهمتهم بعمل عدائي، وسبق لمصر أن رفضت استبداله بثمانية ملاحين مصريين كانوا على متن السفينة “كارين إيه” التي أوقفتها إسرائيل بسواحل البحر الأحمر في عام 2002، زاعمة أن السفينة كانت تحمل أسلحة مهربة إلى إيران.
ـ في عام 2007، ظهرت قضية جديدة عرفت بالجاسوس النووي بطلها مهندس مصري بهيئة الطاقة الذرية يدعى “محمد سيد صابر “متهم مع أيرلندي وياباني هاربين بالتخابر لمصلحة إسرائيل من خلال محاولة اختراق أنظمة الحاسب الآلي لهيئة الطاقة النووية التابعة لوزارة الكهرباء والطاقة والعمل على إتاحة المعلومات الخاصة بنشاط الهيئة لإسرائيل وإمدادها بمعلومات وأوراق سرية تحوي أنشطة الهيئة، وقد اعترف “صابر” بالتجسس النووي لصالح إسرائيل خلال تحقيقات أجرتها نيابة أمن الدولة العليا معه، وقد أصدرت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ عام 2008 حكمًا عليه بالسجن المؤبد 25 عامًا .
ـ فى الأول من أغسطس 2010، ألقت السلطات المصرية القبض على الجاسوسطارق عبد الرازق” في مطار القاهرة أثناء سفره إلى الصين فيما عرف بـ”الفخ الهندي”، وكان بحوزته كمبيوتر محمول و”فلاش ميمورى” سبق أن تسلمها من جهاز المخابرات الإسرائيلية، بالإضافة إلى وسيلة إخفاء عبارة عن حقيبة يد لحاسب آلي محمول تحتوي على جيوب سرية بغرض استخدامها في نقل الأسطوانات المدمجة،التى تحتوى على ملفات تتضمن معلومات سرية .
وتركزت مهام “طارق” على تجنيد عملاء في سوريا ولبنان، وتجنيد عملاء مصريين، وتم تجنيده في جنوب شرق آسيا، وقد أدى جاسوس “الفخ الهندي” مهام استخباراتية داخل سوريا، حيث لعب دور الوسيط بين عميل للموساد في سوريا وتل أبيب، وتمكن من نقل معلومات عن حياة السوريين في العاصمة دمشق وطبيعة الإجراءات الأمنية للدخول والخروج، وتم منع النشر في تلك القضية من قبل محكمة جنايات أمن الدولة.
وكشفت التحقيقات في القضية التي تحمل رقم (650) لسنة 2010 أمن دولة عليا، أن المتهم “طارق عبد الرازق حسين” مدرب الكونغوفو بأحد الأندية سافر إلى الصين في غضون عام 2006، للبحث عن عمل، وأثناء تواجده بها بادر مطلع عام 2007 بإرسال رسالة عبر البريد الإلكتروني لموقع جهاز المخابرات الإسرائيلية مفادها أنه مصري ومقيم في الصين، ويبحث عن فرصة عمل، ودون بها بياناته ورقم هاتفه.
ـ في أغسطس 2007، اتفق “طارق” هاتفيًا مع المتهم الثالث “جوزيف ديمور”، أحد عناصر المخابرات الإسرائيلية، على مقابلته بمقر السفارة الإسرائيلية بالهند، وتم استجوابه عن أسباب طلبه للعمل مع جهاز “الموساد” وتسليمه 1500 دولار مصاريف انتقالاته وإقامته.
وبدأت في يناير 2011، محاكمة “طارق عبدالرازق حسين” (37 عامًا) بمحكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ بالقاهرة، ونسبت نيابة أمن الدولة إلى المتهمين الثلاثة في قرار الاتهام أنهم خلال الفترة من مايو 2008 وحتى أول أغسطس 2010 ـ داخل مصر وخارجها ـ تخابروا مع من يعملون لحساب دولة إسرائيل بقصد الإضرار بالمصالح القومية للبلاد، وأن المتهم “طارق عبدالرازق” اتفق أثناء وجوده بالخارج مع المتهمين الإسرائيليين على العمل معهما لصالح المخابرات الإسرائيلية وإمدادهما بالتقارير والمعلومات عن بعض المسئولين الذين يعملون بمجال الاتصالات لانتقاء من يصلح منهم للتعاون مع “الموساد”، وأصدرت محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ حكمًا بالسجن المؤبد على أعضاء الشبكة، مع مصادرة الأجهزة التي تم ضبطها لصالح المخابرات المصرية(5).
ومن حين لآخر، تشهد عمليات تبادل الجواسيس بين إسرائيل ومصر مفاوضات معقدة وسرية تخضع لعدد من المعايير، منها: الملابسات السياسية، والعلاقة بين مصر وإسرائيل في تلك الفترة، فضلاً عن كم وأهمية المعلومات التي نقلها الجاسوس ومدى خطورته.
ونظرًا لأن المعاهدات الدولية مثل اتفاقية “جنيف” الخاصة بأسرى الحرب لا تتضمن بنودًا عن الجواسيس، والإنتربول الدولي ليس لديه سلطة على نشاط أو تسليم أو مفاوضات تبادل الجواسيس، فلا تخضع عمليات المبادلة لقواعد أو قوانين أو بروتوكولات محددة، لكن هناك بعض القواعد والأعراف المتعلقة بتبادل الجواسيس، ومنها أن يكون التسليم متزامنًا وعلى أرض محايدة أو عبر الحدود، ففي 27 أكتوبر 2011، نفذ الجانبان صفقة مبادلة للجاسوس الإسرائيلى “إيلان جرابيل” بسجناء مصريين برعاية المخابرات المصرية.
وقد صادق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشئون السياسية والأمنية (الكابنيت) بالإجماع على الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل ومصر والولايات المتحدة لإطلاق سراح “جرابيل” مزدوج الجنسية (أمريكي ـ إسرائيلي) المتهم بالتخابر لصالح إسرائيل مقابل 25 من السجناء المصريين فيتل أبيب المتهمين في قضايا سياسية، من بينهم ثلاثة أطفال معتقلين وتمت الصفقة يوم 27 أكتوبر 2011، وكانت أجهزة الأمن المصرية قد احتجزت “جرابيل” منذ 12 مايو 2011 لقيامه بالتجسس والتحريض على تخريب المنشآت العامة.
ويأتي على رأس صفقات هؤلاء الجواسيس وآخرهم الجاسوس “عودة سليمان ترابين” الذي ولد في يوليو 1981، وكان يتسلل إلى “سيناء” عبر الحدود لجمع المعلومات ثم يعود أدراجه، وتم إلقاء القبض عليه في”العريش” أثناء زيارته لشقيقته التي تعيش في القاهرة، حيث حاول تجنيد زوجها لكنه رفض وأبلغ عنه، فقبض عليه ووجهت له السلطات المصرية تهمة التجسس ونقل معلومات عسكرية مصرية للعدو.
وكانت المخابرات الإسرائيلية قد أمدت “عودة” بمبلغ كبير من الدولارات المزيفة ليجند بها العديد من العملاء لصالحها، واتضح أنه كان يحصل على العملة الحقيقية ويدفع للعملاء العملة المزيفة، وكان “سليمان ترابين” الأب قد حكم عليه غيابيًا في القاهرة بالسجن 25 عامًا، وهو مطلوب حتى الآن للقضاء المصري، فحكمه لا يسقط بالتقادم طبقًا للقانون، وكان “سليمان ترابين” يراقب تحركات الفدائيين والمقاومة المصرية، وعندما شعر بأن الأجهزة المصرية تتابعه هرب من “سيناء” عام 1990 ومعه ابنه “عودة ترابين” وعمره 9 سنوات، ومنذ ذلك الحين تبرأ شيخ قبيلة “الترابين” منه باعتباره خائنًا للوطن.
واسم “عودة” الحقيقي هو “عودة سليمان حكي”، وينتمى لعائلة “حكي” إحدى الأسر البدوية التي تسكن صحراء النقب بوسط “سيناء”، وهي إحدى فروع قبيلة “الترابين” العربية التي تمتد جذورها إلى خمس دول عربية، هي: مصر والأردن وفلسطين وسوريا وشبه الجزيرة العربية، وتعمدت إسرائيل إقران اسم “عودة حكي” بلقب قبيلته لإثارة القلاقل وتشوية سمعة وتاريخ القبيلة في الدول الخمس.
حيث تعد قبيلة “الترابين”، من أكبر القبائل البدوية في سيناء عددًا وأغناها أرضًا، كما تنتمي أصولها إلى قبيلة “البقوم” المعروفة, وينتشر أفرادها في مصر بـ”سيناء”وصحراء “النقب”و”العقبة” و”القاهرة”، وفي عدد آخر من محافظات الوجه البحري والصعيد، وتتألف قبيلة “الترابين” إداريًا من 20 عشيرة رئيسية، ويصل تعدادها لـ 475 ألف نسمة، ويعرف عن رجالها الشدة والشجاعة المفرطة والجرأة، وهم أشبه الناس بأبناء قبيلة “قحطان” وقبيلة “شمر عبيدة” في الجزيرة العربية من ناحية الملامح الشكلية، كما عرفت القبيلة وتميزت بوطنيتها وبصلتها القوية مع الجيش المصري وثبت تعاونها الوطني مع الأجهزة الأمنية.
 فردًا على ما نشره تنظيم “ولاية سيناء” يوم 2/7/2015، على مواقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك، تويتر”، من بيان يحذر فيه قبيلة “الترابين” والمواطنين من التعاون مع الجيش، شنت القبيلة في اليوم التالي بمحافظة “شمال سيناء”، هجومًا مسلحًا بمشاركة  350 مسلحًا من أبنائها على معاقل التنظيم بقريتي “العجراء” و”المهدية” بجنوب “رفح”، أسفر عن حرق 27 مأوى يستخدمها التنظيم الإرهابي لعناصره، وذلك ثأرًا لمقتل أحد أبنائها “عبد الباسط الأسطل”، وتدمير منزل أحد رجال الأعمال بالقبيلة “إبراهيم العرجاني” واختطاف آخر في وقت سابق على يد التنظيم، وهو ما يؤكد العداوة القطعية للقبيلة في”سيناء” مع التنظيمات الإرهابية، كما يؤكد من باب أولى عداوتها التاريخية لكل ما يعادي الدولة المصرية وعلى رأس ذلك إسرائيل، ولذا لم يعتنِ أبناء القبيلة بالإفراج ـ على ما يبدو ـ عن وصمة العار الوحيدة في تاريخ قبيلتهم الوطني، الخائن والجاسوس “عودة سليمان ترابين”، فيما تلقفت وسائل الإعلام العبرية خبر الإفراج عنه بالمزيد من الدعاية والتضخيم والترويج واسع الانتشار(6).

(3)

رؤية الداخل الإسرائيلي لإطلاق سراح “ترابين”

في الوقت الذي اعتبرت فيه بعض الأوساط الإسرائيلية إطلاق سراح “ترابين” مكسبًا استخباراتيًا واستراتيجيًا لتل أبيب على حساب القاهرة؛ حيث الاستفادة من النظام المصري الحالي في الموافقة على ما لم توافق عليه الأنظمة السابقة (في إشارة إلى فشل مفاوضات إطلاق سراح “ترابين السابقة مع نظام “مبارك” ومن بعده خلال فترة إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية بقيادة المشير “طنطاوي” وأيضًا خلال فترة الرئيس “مرسي”)، وهو ما يعد مكسبًا إسرائيليًا ومؤشرًا على مرونة النظام المصري التي يمكن لتل أبيب أن تتوصل من خلالها إلى عقد مزيد من الصفقات الأخرى مستقبلاً.
في المقابل، سرت انتقادات ومخاوف لدى أوساط أخرى، ترى في الصفقة إجحافًا بحق الجانب الإسرائيلي، فهي تعزز من مكاسب القاهرة اقتصاديًا في الصفقة؛ حيث ترددت أقاويل عن تنازل الجانب الإسرائيلي عن مبلغ 1.7 مليار دولار مستحقة على القاهرة لتل أبيب كتعويضات لتوقفها عن تصدير الغاز لإسرائيل، وأنها جاءت تمهيدًا لتعزيز التفاهم بين الجانبين حول ملفات الغاز القبرصي، وهو أيضًا ما دفع الحكومة الإسرائيلية لتقديم مزيد من التنازلات فيما يتعلق باتفاقية “الكويز” مع القاهرة.
ولذا، لم يكن ما أعلنه مكتب “نتانياهو” من معلومات عن إطلاق سراح عدد من السجناء المصرين لدى حكومته، إلا مجرد غطاء إسرائيلي؛ حتى لا تواجه حكومة “الليكود” بانتقادات من المعارضة في الكنسيت وحتى لا تظهر أمام الرأي العام الإسرائيلي بعقد صفقة غير متوازنة(7). وأن الصفقة التي عقدتها حكومة “نتانياهو” وأطلق سراح “ترابين” على إثرها، أجحفت بالمصالح الإسرائيلية، حيث لم تدرها حكومة “الليكود” الحالية كما ينبغي في ظل انشغالها بتنامي تنظيم “داعش” واقترابه من حدود إسرائيل وانشغالها بمواجهة تهديدات انتفاضة السكاكين الفلسطينية المتواصلة وإحكام السيطرة الأمنية والعسكرية لحركة “حماس” على قطاع “غزة”، وتبعات التدخل الروسى عسكريًا في سوريا، وتصاعد التهديد الإيراني لأمن إسرائيل بعد توقيع الاتفاق النووي. وبهذا لم تخرج مقاصد ما شهدته وسائل الإعلام الإسرائيلية من ترويج وتهليل لتلك الصفقة عن مضامين ثلاثة، كالآتي:
1ـ إبراز الصفقة على أنها إنجاز وطني ضخم لحكومة “نتانياهو” الحالية في ظل ما تواجهه من تحديات عديدة في عدد من الملفات الداخلية والخارجية المختلفة، ولذا حاولت وسائل الإعلام القريبة من الحكومة، إضفاء مزيد من الأهمية والتضخيم وتسليط الضوء على قدرة الحكومة في إطلاق سراح أحد مواطنيها من السجون المصرية وعودته إلى بلاده ومقابلته لرئيس الوزراء “نتانياهو”، وذلك بما خالف الفشل المعتاد للحكومات الإسرائيلية السابقة في إتمام ذات الصفقة، خاصة في ظل ما يعرفه الداخل الإسرائيلي جيدًا من محدودية مساحة المناورة لحكومة بلاده مع القاهرة في تلك الفترة التي تشهد خلف الأضواء حالة من الجفاء الخفي بين الجانبين رغم التنسيق المعلن والموجود بمقتضى الضرورة المصرية الآن بينهما، حيث استطاع الجيش المصري بحكم الحالة الأمنية المضطربة في سيناء؛ أن يفرض تمركزًا عسكريًا كثيفًا شبه دائم برًا وبحرًا وجوًا في مناطق متقدمة في “سيناء” لم يكن مسموحًا بها من قبل تحت ذريعة مواجهة الإرهاب، وهو ما يعد تجاوزًا لالتزام القاهرة المعتاد باتفاقية السلام الموقعة بين الجانبين، والتي تلزم مصر بمحدودية التواجد العسكري المسلح بشكل كثيف في تلك المنطقة.
 وهو الأمر الذي لم يعد في استطاعة تل أبيب المطالبة بتعديله أو حتى إرجاعه لسابق عهده كما في السابق في ظل الأنظمة المصرية السابقة، فسعت الحكومة الإسرائيلية للاستعاضة عن ذلك الاضطرار، فأبرز إعلامها صفقة “ترابين”، على أنها فائدة إيجابية ما كانت لتحدث لولا هذا التنسيق مع القاهرة، وقد شهد التقييم الإسرائيلي الداخلى لهذا الواقع الجديد الاعتراف بتراجع قدرة حكومته عن إلزام القاهرة  ـ كما في السابق ـ بمضامين الاتفاقية وفقًا لمتغيرات داخلية وخارجية.
2ـ استغلال إطلاق السراح المصري لـ”ترابين” بعد أن قضى فعليًا فترة محكوميته من قبل حكومة وإعلام إسرائيل بصورة كيدية ضد النظام الحالي الحاكم في مصر، حيث جيء بـ”ترابين” للقاء “نتانياهو” شخصيًا للإيحاء بأهمية ما يمثله ذلك الجاسوس من قيمية كبيرة لتل أبيب، ثم أطلق لـ”ترابين” العنان بتقديم عدد من التصريحات الرنانة في الإعلام الإسرائيلي، والتي اعتز فيها بإسرائيليته واحتقاره للتواجد في السجون المصرية، وأشاد بالمعاملة المثالية التي كان يتلقاها في السجون المصرية والتي ترتقي لمستوى التعامل مع الرئيس “مبارك” في محبسه، في مقابل المعاملة الأخرى المهينة لغيره من السجناء المصريين العاديين، والتي تسعى من خلالها تل أبيب لترويج صورة بعينها عن النظام الحالي الحاكم في مصر، حيث تعلم يقينًا كيف سيوظف الإعلام المناوئ للنظام الحالي هذه التصريحات بصورة يفهم من خلالها عمالته وتبعيته لتل أبيب كما يؤكد التنسيق البارز بينهما، وهو ما حدث فعليًا، حيث شنت العديد من المنصات الإعلامية في قطر وتركيا وغيرها حملة شرسة على النظام المصري تؤكد ذات المحتوى(8).
 لكن الحقيقة على غير ذلك، فوفقًا لتقرير نشره الموقع الإلكتروني لصحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية يتضمن صورة لرسالة من “عودة ترابين” مكتوبة باللغة العربية أرسلها إلى رئيس الوزراء “بنيامين نتانياهو”، كان يطالبه فيها بضرورة تنفيذ وعود “الموساد” والتدخل لدى السلطات المصرية للإفراج عنه، كما انتقد فيها تخاذل السعي الإسرائيلي لإطلاق سراحه في السابق، كما اشتكى فيها من سوء المعاملة في السجون المصرية(9).
ثم وبعد أن أطلق سراحه؛ إذا به يردف في حوار أجراه مع القناة العاشرة بالتلفزيون الإسرائيلي بعدد من التصريحات، أكد فيها أنه سيقاضي حكومة إسرائيل (التي صرح سابقًا أنه يعتز بها) وسيطالبها بتقديم تعويض مالي جراء خدماته التي قدمها لإسرائيل سابقًا، عوضًا عن تراخيها في بذل ما كان يجب من جهود مع القاهرة للإفراج عنه(10).
ورغم ذلك يعي الإسرائيليون عمومًا والمقربون من الدائرة الأمنية على وجه الخصوص، حقيقة تلك التحركات التكتيكية من قبل الحكومة الإسرائيلية جيدًا ويدركون ما وراءها، فنظرًا لكون إسرائيل دولة احتلال تقوم على العمالة والتجنيد المستمر للجواسيس على مستوى العالم وبالتركيز على المنطقة العربية، يقوم جهاز “الموساد” فيجزء من فلسفة التجنيد على ترسيخ قاعدة ترويجية مهمة مفادها “الدفاع المستميت عمن يقع من عملائها والاهتمام البالغ على كل المستويات بمن يكشف أمره وفي الإعلام تحديدًا، حتى يعطي ذلك مؤشرًا إيجابيًا مطمئنًا لمن يرغب في العمالة لصالح الجهاز بأن الكيان سيبذل أقصى الجهود للإفراج عنه).
بالإضافة إلى ذلك، يدرك هؤلاء جميعًا حقيقة “ترابين” ومدى أهميته الهامشية لإسرائيل، كونه عميلاً تقليديًا ربما لم يقدم لتل أبيب خدمات كالتي قدمها غيره من ملكات وفرسان الجاسوسية الإسرائيلية، وهو الذى لم يستطع “عودة ترابين” إخفاءه حيث الإحساس بالدونية، بل دائمًا ما يواصل التصريح الضمني ليوحي بضخامة ما قدمه لإسرائيل، ولكنه لم يعلن عن بعض تفاصيل أي من ذلك صراحة، وكثيرًا ما واصل في السابق الهجوم على أعضاء الكنيست العرب لعدم بذلهم جهودًا للإفراج عنه، مثلما قام بذلك الأعضاء الدروز في المطالبة بالإفراج الفوري عن “عزام عزام” الدرزى مثلاً.
3ـ بخلاف “عودة ترابين” والدائرة الأسرية الإسرائيلية المقربة منه وما يرتبط بهما من علاقات جوار ومعرفة داخل بلدته “رهط” حيث يعيش والده “سليمان ترابين” في إسرائيل بصحراء النقب؛ لم يحتفِ فعليًا بإطلاق سراحه إلى جانب هؤلاء غير عدد من بعض الدوائر المقربة والمؤيدة للحكومة الإسرائيلية، سياسيًا وأمنيًا وإعلاميًا.
فللمجتمع الإسرائيلي اليوم اهتمامات وتحديات اقتصادية وأمنية أخرى يعيشها الكل داخل إسرائيل بصورة ضاغطة، لكن هذا لا يتعارض مع التضخيم والترويج الإعلامي للحدث، كما لا يتعارض مع إشادة المعارضة الإسرائيلية داخل الكنيست على لسان زعيم المعسكر الصهيوني “إسحق هيرتزوج” في لقاء على القناة السابعة الإسرائيلية بالصفقة (والتي وصفها بالملحمة القاسية)، مضيفًا أنه “كان جزءًا مهمًا في المعركة القاسية وبذل أقصى جهد لمساعدة “عودة ترابين”، وهو ما تكلل بالإفراج عنه”.
 وهو ما يعنى ـ ربما ـ الإشادة الضمنية بالصفقة حتى يشير إلى دوره البارز في إتمامها، لكن في المقابل اتهمت وسائل إعلام أخرى تل أبيب بتضليل الرأي العام من خلال الإعلان عن الصفقة، مؤكدةً أن “ترابين” أمضى مدة عقوبته في السجون المصرية، وأن القاهرة لم تفرج عنه رغم الجهود المتواصلة إلا بعد إتمام عقوبته كاملة، رغم وجود سوابق أخرى أفرج فيها الجانب المصري عن آخرين قبل أن ينهوا فعليًا مدة محكوميتهم كـ”عزام عزام” مثلاً(11).
أضف إلى ذلك حالة عدم الاستقرار في المجتمع الإسرائيلي؛ نظرًا لما يشهده يوميًا من حالات قتل نتيجة المقاومة الباسلة من الشعب الفلسطيني، فضلاً عن العمليات الإرهابية الناتجة عن المجتمع الإسرائيلي نفسه والتي تتجدد يوميًا بشكل أزعج الإسرائيليين وجعلهم يفقدون الثقة في حكومتهم، مما أدى إلى تراجع شعبية حزب “الليكود”، ففي استطلاع رأي نشره موقع “والا” العبري عبر 61% من الإسرائيليين عن فقدانهم أمنهم الشخصي والثقة بقدرة حكومتهم على وقف العمليات التي تتم ضدهم، وأكد الاستطلاع على تذمر الشعب الإسرائيلي من طريقة تعامل الحكومة مع موجة العمليات الأخيرة، فرأى 71% منهم أنها لم تقم بواجبها، فيما اعتقد 19% أنها تتعامل بجدية مع الأحداث وتعالجها بصورة صحيحة، فيما أعرب 58% منهم عن اعتقادهم بوجوب التعامل مع الإرهاب اليهودي بنفس طريقة التعامل مع الهجمات الفلسطينية، بينما رأى 33% أنه بالإمكان التعامل بطريقتين مختلفتين.
مما سبق، يتأكد أن عام 2015 كان عامًا عصيبًا على الإسرائيليين، ووفقًا لتسلسل الأحداث فإن المجتمع الإسرائيلي بالكامل يحِّمل حكومة “نتانياهو” وحزب “الليكود” صاحب الأغلبية المسئولية عن كل تلك الأفعال، وينتظر رد الفعل المناسب، وإلا سينقلب الحال في لحظة فاصلة(12).

(4)

استقراء واقع  العلاقات الحالى

رغم ما هو معتاد بين القاهرة تل أبيب من اتصالات بمقتضى مضامين اتفاقية السلام الأمنية، ووفقًا لمستجدات الأوضاع الأمنية المضطربة في”سيناء” و”غزة” وكل فلسطين وسوريا والمنطقة، ومع ما يتردد من ادعاءات عن تعزيز التعاون الأمني والتنسيق السياسي بين إسرائيل ومصر في عهد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” والذي لم يعد يقتصر على المستويات العسكرية والأمنية كما كان في عهد “مبارك”، بل وصل الأمر حد التنسيق السياسي ذي الطابع الاستراتيجي، والذي من مظاهره تصويت الخارجية المصرية لإسرائيل في الأمم المتحدة، وزيارة البابا “تواضروس” للقدس مؤخرًا، والإفراج عن الجاسوس “ترابين”، وتصريحات الكاتب المصري “يوسف زيدان” الأخيرة.
فكل هذا لا يعني انتقال حالة العداء البين بين القاهرة وتل أبيب إلى مستوى تعزيز العلاقات  بصورة صادقة، فلازالت ثوابت العداء التاريخي بين الجانبين ثابتة لا تتزعزع، حتى وإن جد عليها بعض ملامح التغير الشكلي، إلا أنها تظل مجرد تكتيكات مرحلية بحكم الموقف ومقتضيات الضرورة الضاغطة، لكن العداء باقٍ وكامن بل ومتصاعد على مستويات عدة ماكرة، لاسيما ما بعد ثورة الـ30 من يونيو 2013، وانكشاف الدور (الصهيو ـ أمريكى) الساعي لتدمير المنطقة، ويمكن قراءة تصاعد ذلك العداء بالإضافة إلى ما تلا ذكره سابقًا في عدد من التحركات الإسرائيلية الأخرى.
ففي بعده العسكري، دفع تعزيز التواجد المسلح للجيش المصري في “سيناء” وتمركز القوات المصرية في المناطق المتاخمة لخط الحدود الإسرائيلية، بقيادة الجيش الإسرائيلي لإجراء مناورات متواصلة على الحدود وتعزيز التواجد العسكري لها في تلك المناطق تحت مزاعم الاحتياط لأي عملية إرهابية قادمة من الأراضي المصرية، وذلك بما يناقض دعاوى الاعتماد على الجيش المصري في تأمين حدود إسرائيل الجنوبية، وبما يتناقض مع الشواهد الكثيرة التي تكشف صلة المجموعات الإرهابية في “سيناء” بالأجهزة الإسرائيلية بصورة شبه مؤكدة، في ظل ما يجده الجيش المصري من أجهزة اتصالات إسرائيلية الصنع مع من يقتل من تلك العناصر في المواجهات، وكذا ما يضبط معها من أسلحة متنوعه إسرائيلية الصنع ذات إمكانيات متطورة.
أيضًا، الرفض الإسرائيلي المتصاعد للتحرك المصري الساعي لاستكمال قناة المياه على خط الحدود مع رفح الفلسطينية، والتي ستعزل وتقلل من التهديدات القادمة من قطاع “غزة”، حيث ستعيق دولة إسرائيل عن إمكانية التحرك المستقبلي لتنفيذ مشروعها الساعي لتفريغ “غزة” في الأراضي المصرية، ولما يمثله ذلك التحرك المصري الاستراتيجي المنفرد من تحدٍ جيو ـ استراتيجي لأحلام التوسع الجغرافي المستقبلي لإسرائيل(13).
أما على المستوى الاستخباراتي، فقد أكد التحرك الإسرائيلي المتمثل في تسليمها معلومات أمنية واستخباراتية كانت بحوزتها لبريطانيا إبان أزمة إسقاط الطائرة الروسية فوق “سيناء”، عدائية إسرائيل التي تنفي وتدحض مزاعم الحميمية بين تل أبيب والقاهرة، ذلك أن تل أبيب أشارت في تلك المعلومات إلى أن من يقف وراء التفجير بعض المجموعات الإرهابية المتمركزة في “سيناء”، ليكشف عن ذلك رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون” بعد ساعات من لقائه الرئيس “السيسى” خلال زيارته إلى بريطانيا، والتي وضعت القيادة والدولة المصرية في حرج أمام العالم، كما تسببت في ضرب موسم السياحة المصرية في مرحلة فاصلة، ولتكشف بعد ذلك تل أبيب عن امتلاكها لهذه المعلومات قبل إسقاط الطائرة (14).
لكن، هذا المشهد البانورامي لتحركات إسرائيل العدائية ضد القاهرة لا يعني الاطمئنان إلى الأحوال الحالية ولا ينفي خطورتها المتصاعدة، بل من الواجب دعم المتغيرات المصرية الإيجابية بتحركات عملية في السياسة والإعلام والاقتصاد، وفي المقابل توضيح خطورة بعض التحركات الهلامية من الجانب المصري تجاه إسرائيل، والتي منها ما هو مواقف فردية، ومنها ما هو ضرورات قهرية، ومنها ما هو تكتيكات مرحلية، ومنها ما هو تحرك سلبي واخيتار بين أقل الضررين، لكنها قد توقع البعض في شراك المزايدة على مدى تمسك القائمين عليها بثوابت العداء تجاه إسرائيل، أو قد تؤدي إلى فقدان ثقة الرأي العام المصري والعربي في القيادة المصرية وفي قدرتها على الدفاع عن الحقوق العربية الأزلية في كل شبر من تراب الأراضي الفلسطينية.
وعليه، وفى قراءة مغايرة لبعض تلك التحركات التي تضع الجانب المصري موضع الاتهام والتقارب مع إسرائيل لتفنيدها وتوضيح ما هو اضطراري وما هو غير مقبول كتصرف من ورائها، تمهيدًا لوضع الجميع أمام مسئولياته وواجباته المنوط القيام بها، نجد أن ما تردد عن تصويت القاهرة لصالح عضوية تل أبيب في إحدى اللجان التابعة للأمم المتحدة كان أهم تلك الوقائع.
 ففي سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، صوتت مصر فى 29/10/2015 لصالح إسرائيل لتفوز بعضوية إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وذكرت وسائل الإعلام العبرية أن إسرائيل حصلت على العضوية الكاملة في لجنة “الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي” التابعة للأمم المتحدة، بعدما أيدت 117 دولة منحها هذا المقعد وكانت مصر من بين تلك الدول، وفيما عارضت دولة ناميبيا بمفردها هذا القرار، امتنعت 21 دولة أخرى عن التصويت، بينها دول عربية هي: السعودية والكويت وقطر والجزائر وموريتانيا وسوريا وتونس والمغرب واليمن، بينما غابت ثلاث دول عربية أخرى عن جلسة التصويت، وهي: الأردن وليبيا ولبنان(15).
وبوضع هذا القرار في سياقه الطبيعي، لم تنفرد مصر وحدها بالتصويت لإسرائيل، وإنما كانت ضمن عشرات الدول التي منحت صوتها لها، كما جاء ذلك في إطار موافقة القاهرة على انضمام ست دول كأعضاء جدد في اللجنة بعد أن تقدمت للحصول على العضوية الكاملة، وهي: الإمارات وعمان وقطر والسلفادور وسريلانكا وإسرائيل، ويشترط نظام التصويت داخل اللجنة الموافقة على الدول المرشحة ككل أو رفضها ككل، ولم يكن في استطاعة القاهرة رفض عضوية إسرائيل وقبول عضوية الدول الخمس الباقية.
وبافتراض أن ذلك القرار جاء بضغط من واشنطن كما قيل، أو لربما سعى المنظمون من وراء ذلك لوضع المجموعة العربية، وعلى رأسها مصر، بين خيارين كلاهما فى صالح تل أبيب: إما التصويت لصالح المجموعة التي من ضمنها تل أبيب حتى يفوزوا هم كذلك بعضوية الإمارات وسلطنة عمان وقطر فى تلك اللجنة، وهو ما استغلته تل أبيب لصالحها، أو أن ينتصر العرب كالعادة لمبدأهم الثابت الساعي لعزل تل أبيب على طول الخط، فيرفضوا جميعًا التصويت للمجموعة فيخسروا فرصتهم الذهبية للفوز بعضوية تلك اللجنة المهمة، وهو ما يعد مكسبًا لإسرائيل أيضًا، وهو ما دفع من صوّت لصالح المجموعة حرصًا على تلك العضوية العربية خاصة في ظل التنسيق عالي المستوى بين الإمارات والقاهرة.
لكن هذا كان لا يمنع القاهرة وغيرها فى الحقيقة ابتداءً من حيث المبدأ، من الاعتراض المبكر قبل التصويت على وضعهم مع إسرائيل في مجموعة واحدة، أو ربما كان من الأفضل رفض القائمة المرشحة بما فيها إسرائيل، أو على الأقل الامتناع عن التصويت، كما فعلت قطر المرشحة ضمن القائمة، بدلاً من منح إسرائيل هذا الشرف، ودرءًا لما سيفتح من باب كبير بهذا التصويت لتأويل توجهات السياسة الخارجية المصرية في الوقت الحالي.
وتبقى خطورة انضمام إسرائيل لهذه اللجنة التي تُعتبر من أهم اللجان في الأمم المتحدة والتي أنشئت ما بين عامي 1958و1959 حين أطلق الاتحاد السوفيتي القمر الصناعي الأو،  ثم زاد عدد أعضائها من أربع وعشرين دولة ليصل عام 2007 إلى 84 دولة، ويتمحور دورها في استكشاف الفضاء الخارجي للعالم لخدمة الإنسانية والسلم الدوليين والتنمية(16)، وهنا يجب التفكير كثيرًا: هل بهذا التصويت ستستخدم إسرائيل الفضاء الخارجي من أجل الإنسانية والسلم والتنمية؟ أم سيعطي انضمامها شرعية لمزيد من العبث في الفضاء العربي المخترق أصلاً؟
بل لن يكون باستطاعة أحد أن يعترض على ما ستقوم به مستقبلاً، لأنها عضو ولها حق الاستكشاف، وتبقى الإشكالية أن القاهرة بهذا التصويت أعطت إسرائيل مفاتيح السماوات العربية لتسبح فيها بأجهزة تجسسها، ووضعت نفسها موضع التهكم والاستنكار من كل التوجهات السياسية والفكرية.

(5)

ملامح وحدود المسار المستقبلي للعلاقات

لا خلاف على أن مصر وإسرائيل من الدول المحورية في منطقة الشرق الأوسط، وأن استقرار العلاقات بينهما سوف يؤدي إلى استقرار المنطقة، وأن أي توتر في العلاقات الثنائية بينهما سوف يجعل منطقة الشرق الأوسط بيئة بركانية ثائرة، وخاصة في ظل الأوضاع الدولية الملتهبة وفي ظل الطموح الإقليمي المتصاعد للسيطرة أيديولوجيًا وثقافيًا واقتصاديًا عليها.
لكن ورغم ما تضمنته اتفاقية السلام بين الجانبين من تأمين تقليدي لأمن تل أبيب عسكريًا وأمنيًا، من المتوقع ألا تظل النظرة الإسرائيلية لالتزام الجانب المصري بمعاهدة السلام حرصًا على استقرار المنطقة، وإنقاذًا للمساعدات الأمريكية التي يمكن أن تساند الاقتصاد المصري وتنقذه من عثرته كما كانت في الماضي؛ وذلك في ظل عدد من التحركات المصرية العسكرية والاقتصادية والتنموية في “سيناء” وفي غيرها، والتي ستغير من ملامح الواقع المعتاد إلى صورة مغايرة تعيد “سيناء” لحضن الدولة المصرية، وستفقد إسرائيل ـ بموجب تلك التحركات ـ استغلالها التقليدي للخلل الأمني والسكاني والتنموي في سيناء أهميته الاستراتيجية.
فإذا ما أضيف إلى ذلك التغير المحتمل واقع الدولة المصرية الحالي سياسيًا؛ حيث تجاوزها لمرحلة الاضطراب الانتقالي وإعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، وهو ما سيعزز من قدرة القاهرة على السير قدمًا في تعزيز قدراتها الاقتصادية والاستثمارية، والتي سيأتي على رأسها مزيد من الارتقاء بالعلاقات الاستراتيجية المتنوعة (عسكريًا، سياسيًا، نوويًا، اقتصاديًا) مع روسيا العدو المناوئ لحليف تل أبيب الأول والراعي الرسمي لاتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، والمدافع الأول عن تجاوزات إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني في كل المحافل الدولية (واشنطن)، وفي ظل الانتشار المصري شمالاً بتعزيز العلاقات الثنائية مع دول جنوب شمال المتوسط، اقتصاديًا وسياسيًا، حيث الكشوفات الغازية التي ستضع مصر على خريطة الاحتياطات الاستراتيجية للغاز الطبيعي كسلعة أولى في قطاع الطاقة في المستقبل.
من هنا، ستجد إسرائيل نفسها في مأزق محدودية القدرة على مواجهة وعرقلة تلك التحركات المصرية مستقبلاً، لاسيما مع تراجع القدرة الأمريكية في إعادة توجيه التحرك المصري بعد سقوط حكم “الإخوان المسلمين” لصالحها، وفي ظل فشل وافتقاد واشنطن لمجمل أوراق الضغط التي كانت تتحكم بها قديمًا مع تل أبيب في أوضاع المنطقة، حيث بدت تلوح في الأفق العربي مقدمات فشل سياستهما بعد ثورات الربيع العربي في تقسيم المنطقة، ويتداعى الآن المشروع الشرق ـ أوسطي بعد الفوضى الخلاقة ومحاصرة أذرع إيران التوسعية.
وقريبًا ستدخل المنطقة في مرحلة انكشاف شعبي وحتمي لتك السياسات تمهيدًا لانحسارها كما انحسرت في السابق التجربة الاستعمارية، وذلك في ظل الإصرار الروسي على العودة الشرق ـ أوسطية، وفي ظل ملل الشعوب والحكومات العربية من منظومة الاستغلال والتوجيه والوصاية الأمريكية، وهو ما سيحكم على علاقة إسرائيل بالقاهرة، بمزيد من الانفصالية وفك الارتباط التقليدي شيئًا فشيًا، كاستجابة لمجمل ضغط تلك التغيرات على تل أبيب وفي ظل محدودية قدرتها على المناورة التقليدية، الأمر الذي سينقلها إلى موضع المناورة الإيجابية في عدد من الملفات العالقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وربما هذا ما كانت تتوقعه مؤسسات الفكر الاستراتيجي في تل أبيب وواشنطن، فلجأت إلى الارتقاء بمستوى التعاون الاستخباراتي والتنسيق العملياتي ومضاعفته فيما يشبه تشكيل غرفة عمليات دائمة لإحكام السيطرة على القاهرة بعد تقاربها الأخير مع موسكو، والسعي بكل السبل لإعادتها إلى وصاية التوجيه والتبعية الأمريكية، ولإحكام السيطرة اللاسلكلية على أغلب اتصالات وبيانات دول المنطقة؛ فقد كشف الخبير الإسرائيلي المتخصص في شئون الإستخبارات “رونين بيرغمان” فى حديث له للقناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي نقلته صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوم 7 فبراير 2014، عن أن إسرائيل سمحت لوكالة الأمن القومي الأمريكية بإقامة مركز استخبارات ضخم بمدينة القدس، يضم هوائيات وأجهزة استقبال متطورة للغاية تستخدم لرصد الإشارات من الأقمار الصناعية التابعة لمختلف دول العالم. وذكر “برغمان” أن الموقع الجغرافي لمدينة القدس يتيح التقاط الإشارات من عدد من أهم الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات في العالم، مما سيسهم بشكل ملحوظ في تعزيز قدرات الاستخبارات الأمريكية في هذا المجال.
وذلك لإعادة التمركز وإحكام السيطرة الاستخباراتية مجددًا، لاسيما وأن صحفًا غربية ومصادر رصد أوروبية كانت قد تحدثت خلال عام 2013 عن تعثر أجهزة الاستخبارات الأمريكية في تتبع الاتصالات في مصر بسبب استخدام الجيش المصري لأجهزة اتصال روسية وألمانية وصينية استحال على الخبراء الأمريكيين والإسرائيليين اختراقها في حينها، وأنه لمواجهة هذا الإخفاق المرحلي ستقوم الأجهزة الأمريكية بإنشاء مراكز تنصت جديدة، وكذلك جيل جديد من الأجهزة الراصدة المتصلة بنظام التموضع العالمي.
وكان موقع “كريبتوم” الأمريكي المتخصص في نشر الوثائق السرية قد كشف أن “وكالة الأمن القومي” الأمريكية تنصتت على 125 مليار اتصال هاتفي ورسائل نصية حول العالم خلال شهر يناير 2013، ومعظمها بدول الشرق الأوسط، وخص مصر وحدها تسجيل 1.9 مليار اتصال.
وتحولت هذه القضية إلى فضيحة عالمية للإدارة الأمريكية على خلفية تسريب العميل السابق للوكالة “إدوارد جوزيف سنودن” اللاجئ حاليًا بروسيا لمعلومات عن عمليات التنصت على الاتصالات التي تمارسها “الوكالة” داخل الولايات المتحدة وخارجها، بما في ذلك هواتف 35 من القادة والزعماء الأجانب، بينهم هاتف المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” الصديقة للولايات المتحدة(17).

الهوامش

(1) العربية نت، “الإفراج عن الجاسوس عودة ترابين مقابل سجينين بإسرائيل”، مكتب القاهرة، 10/12/2015.
 (2) عبد العليم محمد، العلاقات المصرية الإسرائيلية في عهد مبارك“، مركز الجزيرة للدراسات، مكة المكرمة، 13/10/2011.
(3) الهيئة العامة للاستعلامات، “بروتوكول الكويز”، القاهرة، 30/9/2019.
 (4) طلعت المغربي، “الثورة.. وهواجس إسرائيلية”، الوفد، القاهرة، 30/3/2011.
 (5) عبد الوهاب عليوة، “صفقات الجواسيس بين القاهرة وتل أبيب“، القاهرة، الوفد، 16/7/2011.
 (6) سيد عبد اللاه، قبيلة الترابين.. عادات وتقاليد وتاريخ يمتد من فلسطين إلى شبه جزيرة سيناء“، القاهرة، البديل، 28/4/2015.
 (7) محمد الشماع، حقيقة إلغاء غرامة الغاز ضمن صفقة الجاسوس الإسرائيلى ترابين”، القاهرة، موقع مبتدأ، 12/12/2015.
 (8) البوابة الإخبارية، “العميل الإسرائيلي المفرج عنه: ظروف اعتقالي بمصر كانت مثالية“، القاهرة، 12/12/2015.
على الرابط: albawaba.com/ar))
 (10) صوت المسيح الحر نقلاً عن اليوم السابع، “مفاجأه.. التربين جاسوس الموساد يقاضي إسرائيل ويطالب يتعويضات مالية، القاهرة، 9/1/2016.
 (11) آلاء البدرى، “صحف إسرائيلية: مصر ضحكت علينا فى صفقة الترابين”، القاهرة، روزاليوسف، 12/12/2015.
 (12) أخبار العربية، “الحكومة الإسرائيلية على كف عفريت.. الإسرائيليون فقدوا أمنهم الشخصي ويحملون الليكود المسئولية”، 2/1/2016.
 (13) مروة محمد، إسرائيل تدق طبول الحرب على الحدود مع مصر.. الاحتلال يعيد توزيع ورفع حجم قواته العسكرية.. ينشر بطاريات وأسلحة جديدة”، القاهرة، فيتو، 13/1/2016.
 (14) الجزيرة مباشر” إسرائيل ترجح وقوف “متشددين” وراء إسقاط الطائرة الروسية”، الدوحة، 9/11/2015.
 (15) الجزيرة نت، “مصر تقر بتصويتها لصالح إسرائيل فى الأمم المتحدة”،الدوحة، 4/11/2015.
 (16) إيهاب نافع، ضغوط أمريكية دفعت مصر إلى التصويت لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة“، روسيا اليوم، 4/11/2015.
 (17) عمر نجيب، “مصر وتحديات المرحلة الانتقالية في زمن الفوضى الخلاقة”، مجلة ميدل إيست أونلاين، لندن، 11/4/2014.

تعليقات

نموذج الاتصال
الاسمبريد إلكترونيرسالة